شارك أقوام كثيرون القرشيين في سكن مكة عند ظهور الإسلام، وهؤلاء من قبائل شتى، استقروا في مكة وحالفوا أهلها، فسُموا بالحلفاء. وقد نشأت الأحلاف، وكانت مختلفة في غاياتها، نتيجة لانعدام السلطة المركزية، فلجأ الأفراد والجماعات إلى هذا النوع من التكتل. وقد جاء هؤلاء "الحلفاء" من مناطق وقبائل مختلفة للاحتماء بقريش ولمكانة مكة. وتلفت د. إلهام البابطين في دراستها القيمة لحياة مكة الاجتماعية، "أن أكثر الحلفاء الذين ذكرتهم المصادر هربوا من جناية قتل أو أنهم سلكوا سلوكاً سيئاً تسبب في خلعهم من قبائلهم الأصلية". هذا ما تذكره المصادر، كما تذكر أسباباً أخرى منها المصاهرة، والرغبة في التعبد والنصرة والمساعدة. وتضيف الباحثة "إن السبب الأهم من كل ما ذكر، هو ازدهار الأحوال الاقتصادية بمكة، خاصة بعد شروعها في تجارة القوافل مع الدول والأقاليم المجاورة، بعد انهيار التجارة التي كانت تديرها الدولة الحميرية (115 ق.م-إلى525م)، بحيث أصبحت مكة مركز التجارة الأول في غرب الجزيرة العربية. ويبدو أن أهل مكة كانوا يرحبون بقدوم هؤلاء الحلفاء ويرغبونهم في الإقامة بينهم، ولا شك أن هدفهم تقوية نفوذهم بهم، حيث وجودهم يزيد من عدد سكان مكة. ثم إن بعض هؤلاء الحلفاء كانوا من أهل المكانة في عشائرهم، أو من أصحاب الثروات، حتى ليتنافس أهل مكة على دعوة القادمين لحلفهم، مثلما حدث لما قدِم مكة أبوقارظ الكناني، وكان جميلاً، بليغ اللسان شاعراً، فدعته كل بطون قريش إلي حلفها". كانت أصول هؤلاء الحلفاء من قبائل العرب مثل بني كنانة وبني ليث وبني أسد وغيرهم.
وكان بينهم عرب يمانية...إلخ. أما عن حجمهم السكاني، تقول الباحثة، "فإنهم كانوا في تزايد مستمر عند ظهور الإسلام، وعندما جمعنا أسماء الحلفاء الذين عاشوا في مكة عند ظهور الإسلام حصلنا على ما يقرب من 243 حليفاً من بين مجموع رجال مكة عند ظهور الإسلام الذي بلغ ما يقرب من 903 رجال، فكانت نسبتهم حوالي 26,91 في المئة، وبموجب من شهد بدراً من أهل مكة، كان عدد أسماء الحلفاء حوالي 69 حليفاً من أصل أسماء 248 رجلاً، وبذلك فإن نسبة الحلفاء تقرب 27,8 في المئة". وكان الحلف أحياناً دائم الإلزام، يرثه الأبناء والأحفاد. وكان من المعتاد أن يدعو القرشي حليفه إن كان فرداً إلى السكنى معه في داره، أو يقطعهم أرضاً قرب داره. ومن متابعة صيغة الأحلاف، تقول د. البابطين، نلاحظ أن الحليف اعتبر من أهل القرشي، فهو يتولى عاقلته، بمعنى أنه يضمنه في الجناية غير المقصودة، وفداءه، وعليه أن يترك له من ميراثه. ومن مظاهر تعهد المتحالفين توثيق الحلف بعقد المصاهرات فيما بينهم. ومما يعكس مكانة الحلفاء في مكة، أن بعضهم كانوا من الحكام الذين تحتكم إليهم قريش في حل الخلافات القائمة بينهم. وكان للحلفاء مشاركة فعالة في الحياة بمكة، وقد تصل أحياناً إلى الزعامة، وشارك الحلفاء في قيادة القوافل التجارية القادمة إلى مكة والخارجة منها، كما كانت للحلفاء مشاركات في الحروب التي خاضتها قريش، ومنها حربها ضد المسلمين في المدينة، حيث كانت نسبتهم في غزوة بدر نحو 28 في المئة من جيش قريش. غير أن النجاح والقبول الاجتماعي لم يلازما كل الحلفاء، إذ لازم بعضهم شعور بالذل والهوان حتى اضطر بعضهم إلى مغادرة مكة. ذلك أن بعض أهل مكة كانوا ينظرون إلى الحليف كدخيل غريب. كانت ظروف مكة السياسية والاقتصادية والجغرافية، كما ينقل د. محمد بيومي مهران عن العقاد، قد جعلت منها مدينة عربية لجميع العرب، "فلم تكن كسروية أو قيصرية، ولا تُبعيّة أو نجاشية، كما عساها أن تكون لو استقرت على مشارف الشام، أو تخوم الجنوب". ويضيف د. مهران إن مكة في حياتها التجارية "كانت أشبه ببنك كبير، فلم تكن القوافل ملكاً لشخص واحد، وإنما كانت هناك طريقة لجمع المال من عدة أسر معروفة، كهاشم وأمية ومخزوم ونوفل، وقد أدى ذلك إلى تضخم أموال قريش. كما بلغت قوافلهم في بعض المرات ألفين وخمسمائة بعير. ومن الباحثين من يرى أن قيمة مكة قد زادت بعد احتلال الحبشة لليمن في عام 525م، فقد أصبح الطريق البري عبر تهامة والحجاز هو الطريق الوحيد المفتوح أمام التجارة. وكان لابد بعد أن توقف النشاط التجاري اليمني، أن يوجد من يسد هذا الفراغ، ويقوم بدور الوسيط المحايد بين المتنازعين، لنقل التجارة، فبرزت مكة في هذا المجال. فقد كانت في موقع متوسط بين عرب الشمال والجنوب، وطرفي الصراع الفرس والروم، إلى جانب رغبة الفريقين المتنافسين في وجود مثل هذا الوسيط المحايد. ويوضح الباحث أحمد إبراهيم الشريف في كتابه "مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول"، أن الزعيم القرشي لم يكن يحمل لقباً معيناً، كما أن العشيرة كانت تتمتع بحرية كاملة ولا تخضع لسلطان غيرها دائماً، بل إن كثيراً من الأفراد كانوا يخرجون على رأي العشيرة نفسها.
فبنو زهرة لم تشارك قريشاً في موقعة بدر، رغم موافقتها على القتال وخروجها إليه". ويرى الدكتور طه حسين في كتابه "مرآة الإسلام"، أنه من العسير أن نحدد لمكة نظاماً من نظم الحكم التي يعرفها الناس، "فلم يكن لها ملك، ولم تكن جمهورية أرستقراطية بالمعنى المألوف لهذه العبارة، ولم تكن جمهورية ديمقراطية بالمعنى المعروف لهذه العبارة أيضاً، ولم يكن لها طاغية يدير أمورها على رغمها، وإنما كانت قبيلة عربية احتفظت بكثير من خصائص القبائل البادية، فهي منقسمة إلى أحياء وبطون وفصائل، والتنافس بين هذه جميعاً قد يشتد حيناً ويلين حيناً آخر ولكنه لا يصل إلى الخصومات الدامية، كما هو الحال في البادية، وأمور الحكم تجري كما تجري في البادية، وكل ما وصلت إليه قريش من التطور في شؤون الحكم، هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يُرجع إليه فيما يشكل من الأمر، وإنما كان لها سادة أو شيوخ يلتئم منهم مجلس في المسجد الحرام أو في دار الندوة". (ص 409). وقد عملت قريش على توفير الأمن في منطقة مكة، وهو أمر ضروري في بيئة تغلي بالغارات وطلب الثأر، حتى يكون البيت ملاذاً للناس وأمناً، ولعل هذا هو السبب، يقول د. مهران، عن حركة إصلاح أخرى قامت بها قريش، مؤداها ألا تقر بمكة ظلماً، سواء أكان من أهلها أم من سائر الناس، فعقدت مع قبائلها ومع القبائل الأخرى المجاورة حلفاً عرف بـ"حلف الفضول"، حيث تعاهدوا على أن لا يُظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، وإلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم. وعملت قريش كذلك على توفير الماء والطعام للحجيج-قبل الإسلام-في منطقة يشح فيها الماء ويقل الطعام، ثم أوكلت سقاية الحاج إلى البطون القوية منها. وكان أمر ضيافة الحجيج عملاً لا يقل عن سقايتهم، وقد أسندتها قريش إلى الأغنياء من رجالاتها، لأن قدوم الحجاج من أماكن بعيدة من شبه الجزيرة العربية، يصعب معه حمل الزاد. غير أن قريشاً بمثل هذه الخدمات المكلفة،